حينما كنا أطفالاً كانت الدنيا تبدو في عيوننا متحفاً رائعاً مليئاً بأشياء غريبة مذهلة مدهشة.. وكنا لا نكفّ عن السؤال.. ولا نكف عن الفضول.. ولا تشبعنا إجابة.. إذا قالوا لنا هذه شجرة .. عدنا نسأل بكل براءة.. وما الشجرة.. فيقولون لنا.. نبات أخضر.. وما النبات الأخضر.. نبات له جذور وفروع و أوراق.. وما الجذر وما الفروع وما الأوراق.. مثل الأرجل والسيقان.. وما الأرجل والسيقان.. قوائم مثل الكرسي.. وما الكرسي.. آلاف الأسئلة.. ولا نهاية.. ولا شبع .. ولا جواب يشفي غليل العقل المتطلّع إلى الحقيقة.. ولا كلمة تحمل لنا مدلولاً.. كلها كلمات فارغة بلا معنى..
ونحن حينما نتذكر هذه الأسئلة الآن وبعد أن كبرنا يخيّل إلينا أنها كانت إلحاحاً تافهاً.. ولجاجة سمجة..
والحقيقة أنها لم تكن أبداً إلحاحاً تافهاً.. وإنما كانت اكتشافاً خطيراً..
لقد اكتشفنا بها إفلاس اللغة.. فما اللغة إلاّ مجموعة حروف وإشارات مثل إشارات مورس التلغرافية ليس فيها صدق غير الصدق الإصطلاحي الذي اصطلحنا عليه.. كل الكلمات ليست سوى اصطلاحات مرغمة على دلالات هي بريئة منها.. مجرد بطاقات كبطاقات التسعيرة قابلة للاستبدال من بلد إلى بلد ومن لغة إلى لغة ومن زمن إلى زمن.. أمّا الحقيقة ذاتها فهي بلا اسم..
الحقيقة مطلقة من الأسماء.. نباشرها بقلوبنا ولا نستطيع أن نسميها بأسماء تحيط بها..
بيننا وبين الحقيقة فرقة وانشقاق.. ارتباطنا بالحقائق ارتباط سطحي.. ارتباط بألفاظ.. ارتباط بأجسام.. خبز وثرثرة وعادات متوارثة وكلمات محفوظة وحياة تمرّ على طريقة قتل الوقت.. وقتل الحياة.. قزقزة لب.. وإحراق سجائر.. وإحراق أيام.. ماذا نأكل اليوم.. كيف ننفق ملل هذا المساء.. كيف نوقع هذه المرأة في حبائلنا.. غرائزنا تسدّ علينا أبواب إدراكنا.. لا يكاد الواحد منّا يرى أبعد من ساق زوجته.. لا يكاد يرى أبعد من غرفة نومه.. وغرفة طعامه.. وأنانيته توصد عليه الباب أكثر بأن تسجن أفكاره في حلقة مفرغة من الحقد والحسد والغيرة والمصلحة.. نوم عميق وحياة أشبه بالطقوس البدائية..
لا شيء يضاهي هذه الحياة سوى اللحظات الطفلة.. اللحظات التي نرتد فيها إلى طفولتنا وبراءتنا ونشاهد الحياة في بكارتها ونظافتها وعذريتها من قبل أن تدنسها الكلمات.
لحظات الصحو والانتباه والرؤى الطاهرة التي تقفز بنا عبر أسوار المألوف والمعتاد وتكشف لنا وجوهاً أخرى من وجوه الحقيقة..
وهذا هو ما قصده النبي أيوب حينما قال كلمته المعروفة في التوراة وقد بلغ به العذاب والصبر مداه.. فقال مخاطباً ربه:
الآن تستطيع عيناي أن تراك..
من ذروة العذاب والألم رأى أيوب الحقيقة في لحظة من هذه اللحظات الملهمة.. رأى قدسية الحياة برغم الشقاء وبرغم الألم.. وشعر بهذه القدسية في نفسه.. في إصراره وصموده وصبره وصراعه مع المستحيل الذي بلغ الذروة.. دالاًّ بذلك على منتهى حريته.. فابتهج لانه أصبح جسد الحرية ولحمها ودمها..
وهي اللحظة نفسها التي صرخ فيها الطفل في قصة هانز أندرسون وأشار إلى الإمبراطور وهو يغرق في الضحك قائلا:.. ألا ترون أن الإمبراطور عريان..
إنه الوحيد الذي لم ينخدع بحكاية الثوب الخرافي الذي نسجه الدجالون للإمبراطور.. الوحيد الذي نظر إلى الإمبراطور فوجد أنه لايلبس شيئاً.. فقال ببراءة وصراحة وبلا خجل وبلا رياء.. انظروا.. ألا ترون أن الإمبراطور عريان..
وهذا أعمق مافي الطفل.. تلك البراءة التي لا تعرف الخوف ولا الخجل ولا الكياسة ولا المجاملة.
حينما يرفع إلينا الطفل وجهاً يقطر بالبراءة والسذاجة بسألنا:
- من أين جئتم بي إلى هذه الدنيا ؟...
فإنه في الحقيقة يضع سؤالاً لا يستطيع لا يستطيع أن يجاوب عليه أحد.. سؤالاً أعمق من كل أفهامنا وأفهام آبائنا وأجدادنا من الفلاسفة الذين أفنوا أعمارهم في التفكير..
من أين جئنا إلى هذه الدنيا.. وإلى أين نذهب؟!..
لا أحد من الكبار يعرف.. ولا أحد يحاول أن يعرف.. ولا أحد يفكر..
كلنا أرحنا أنفسنا من التفكير ومن الأسئلة ومن الاجوبة.. وشغلنا أنفسنا بما نأكل اليوم وما نشرب.. وكيف نقتل ملل هذا المساء وكيف نوقع هذه المرأة في حبائلنا..
ولكن الطفل البرئ العميق.. مشغول.. وهو يطرح علينا سؤاله بكل براءة..
ومن هذه اللحظات النادرة.. من هذا القلق الطفل العميق الذي يهتك ألفة الأشياء المألوفة فتبدو غريبة غير مألوفة.. تتدفق الأسئلة التي يتألف منها فكر الإنسان وحضارته وتقدمه.. بدافع هذا القلق النبيل يعيد الإنسان النظر في كل شيء، ويرفع المنظار المبتذل الذي يضعه على عينيه و يكف عن الرؤية العادية المبتذلة، ويبدأ في تقدير الأشياء بمعيار جديد ويحلّق فوق مستوى غرائزه.. ويرى أبعد من أنفه ويصلح من هندامه.. ويطوّر من تفكيره ولا يعيش ويموت كذباب ملتصق بالعسل.
في رؤى الفنان .. وأحلام القائد.. وإلهام المصلح.. هذه البراءة التي تكشف بضوئها فساد المألوف.. وقصور الواقع .. وتتطلّع إلى حل.. وجواب.. وخلاص..
والعظيم هو الذي يحافظ على براءته وعلى أفكاره الحرة المجنّحة التي تزدري كل ما تواضع عليه الناس من واقع مألوف مبتذل.
- التعليقات ومناقشات المبدعون (0) :